فصل: تفسير الآية رقم (127):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (127):

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}
{وَإِذْ يَرْفَعُ} عطف على {وَإِذْ قَالَ إبراهيم} [البقرة: 126] وإذ للمضي وآثر صيغة المضارع مع أن القصة ماضية استحضارًا لهذا الأمر ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه {القواعد مِنَ البيت} القواعد جمع قاعدة وهي الأساس كما قاله أبو عبيدة صفة صارت بالغلبة من قبيل الأسماء الجامدة بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر من القعود عنى الثبات، ولعله مجاز من المقابل للقيام، ومنه قعدك الله تعالى في الدعاء عنى أدامك الله تعالى وثبتك، ورفع القواعد على هذا المعنى مجاز عن البناء عليها إذ الظاهر من رفع الشيء جعله عاليًا مرتفعًا، والأساس لا يرتفع بل يبقى بحاله لكن لما كانت هيأته قبل البناء عليه الانخفاض ولما بني عليه انتقل إلى هيأة الارتفاع عنى أنه حصل له مع ما بني عليه تلك الهيأة صار البناء عليه سببًا للحصول كالرفع فاستعمل الرفع في البناء عليه واشتق من ذلك {يَرْفَعُ} عنى يبني عليها، وقيل: القواعد ساقات البناء وكل ساق قاعدة لما فوقه، فالمراد برفعها على هذا بناؤها نفسها، ووجه الجمع عليه ظاهر وعلى الأول لأنها مربعة ولكل حائط أساس، وضعف هذا القول بأن فيه صرف لفظ القواعد عن معناه المتبادر وليس هو كصرف الرفع في الأول، وقيل: الرفع عنى الرفعة والشرف، والقواعد عناه الحقيقي السابق فهو استعارة تمثيلية وفيه بعد إذ لا يظهر حينئذٍ فائدة لذكر القواعد. و{مِنْ} ابتدائية متعلقة بـ {يَرْفَعُ} أو حال من {القواعد} ولم يقل قواعد البيت لما في الإبهام والتبيين من الاعتناء الدال على التفخيم ما لا يخفى.
{وإسماعيل} عطف على {إِبْرَاهِيمَ}، وفي تأخيره عن المفعول المتأخر عنه رتبة إشارة إلى أن مدخليته في رفع البناء، والعمل دون مدخلية إبراهيم عليه السلام، وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة، وقيل: كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب، وأبعد بعضهم فزعم أن إسمعيل مبتدأ وخبره محذوف أي يقول: ربنا، وهذا ميل إلى القول بأن إبراهيم عليه السلام هو المتفرد بالبناء ولا مدخلية لإسمعيل فيه أصلًا بناءً على ما روي عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذ ذاك طفلًا صغيرًا، والصحيح أن الأثر غير صحيح، هذا وقد ذكر أهل الأخبار في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه، ومن أي شيء كان باباه، وكم مرة حجه آدم، ومن أي شيء بناه إبراهيم، ومن ساعده على بنائه، ومن أين أتى بالحجر الأسود؟؟؟ أشياء لم يتضمنها القرآن العظيم، ولا الحديث الصحيح، وبعضها يناقض بعضًا، وذلك على عادتهم في نقل ما دب ودرج، ومن مشهور ذلك أن الكعبة أنزلت من السماء في زمان آدم، ولها بابان إلى المشرق والمغرب فحج آدم من أرض الهند واستقبلته الملائكة أربعين فرسخًا فطاف بالبيت ودخله ثم رفعت في زمن طوفان نوح عليه السلام إلى السماء ثم أنزلت مرة أخرى في زمن إبراهيم فزارها ورفع قواعدها وجعل بابيها بابًا واحدًا ثم تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر الأسود، وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبريل فخبئت في زمان الطوفان إلى زمن إبراهيم فوضعه إبراهيم مكانه ثم اسود لامسة النساء الحيض، وهذا الخبر وأمثاله إن صح عند أهل الله تعالى إشارات ورموز لمن ألقى السمع وهو شهيد فنزولها في زمن آدم عليه السلام إشارة إلى ظهور عالم المبدأ والمعاد ومعرفة عالم النور وعالم الظلمة في زمانه دون عالم التوحيد، وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين، والاعتدال من عالم الطبيعة الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى النباتية والحيوانية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكونت فيها بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة تلقى القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الآداب والأخلاق الجميلة، والملكات الفاضلة، والتمرن والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب، وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين، ودخوله إشارة إلى تمكينه واستقامته فيه، ورفعه في زمن الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمن نوح عن مقام القلب، وبقاؤه في السماء إشارة إلى البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته، ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى ترقي القلب إلى مقام التوحيد إذ هو أول من أظهر التوحيد الذاتي المشار إليه بقوله تعالى حكاية عنه: {وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السموات والأرض *حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} [الأنعام: 79] والحجر الأسود إشارة إلى الروح التي هي أمر الله عز شأنه ويمينه، وموضع سره، وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك آلات البدن باستعمالها في التفكر والتعبد في طلب ظهوره، ولهذا قيل: خبئت أي احتجبت بالبدن، واسوداده لامسة الحيض إشارة إلى تكدره بغلبة القوى النفسانية على القلب، واستيلائها عليه، وتسويدها الوجه النوراني الذي يلي الروح منه:
ولو ترك القطا ليلًا لناما

{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} أي: يقولان ربنا وبه قرأ أبيّ والجملة حال من فاعل {يَرْفَعُ} وقيل: معطوفة على ما قبله بجعل القول متعلقًا لـ {إِذْ} والتقبل مجاز عن الإثابة والرضا لأن كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه، وفي سؤال الثواب على العمل دليل على أن ترتبه عليه ليس واجبًا، وإلا لم يطلب، وفي اختيار صيغة التفعل اعتراف بالقصور لما فيه من الإشعار بالتكلف في القبول، وإن كان التقبل والقبول بالنسبة إليه تعالى على السواء إذ لا يمكن تعقل التكلف في شأنه عز شأنه، ويمكن أن يكون المراد من التقبل الرضا فقط دون الإثابة لأن غاية ما يقصده المخلصون من الخدم لوقوع أفعالهم موضع القبول والرضا عند المخدوم، وليس الثواب مما يخطر لهم ببال، ولعل هذا هو الأنسب بحال الخليل وابنه إسمعيل عليهما السلام.
{إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} تعليل لاستدعاء التقبل، والمراد السميع لدعائنا، والعليم بنياتنا، وبذلك يصح الحصر المستفاد من تعريف المسندين ويفيد نفي السمعة والرياء في الدعاء والعمل الذي هو شرط القبول، وتأكيد الجملة لإظهار كمال قوة يقينهما ضمونها وتقديم صفة السمع، وإن كان سؤال التقبل متأخرًا عن العمل للمجاورة ولأنها ليست مثل العلم شمولًا.

.تفسير الآية رقم (128):

{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}
{رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي منقادين قائمين بشرائع الإسلام أو مخلصين موحدين لك فمسلمين إما من استسلم إذا انقاد أو من أسلم وجهه إذا أخلص نفسه أو قصده ولكل من المعنيين عرض عريض، فالمراد طلب الزيادة فيهما أو الثبات عليهما، والأول أولى نظرًا إلى منصبهما وإن كان الثاني أولى بالنظر إلى أنه أتم في إظهار الانقطاع إليه جل جلاله. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه {مُسْلِمِينَ} بصيغة الجمع على أن المراد أنفسهما والموجود من أهلهما كهاجر وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادًا به التثنية، وقد قيل به هنا، {وَمِن ذُرّيَّتِنَا} عطف على الضمير المنصوب في {أَجَعَلْنَا} وهو في محل المفعول الأول و{أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} في موضع المفعول الثاني معطوف على {مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ولو اعتبر حذف الجعل فلابد أن يحمل على معنى التصيير لا الإيجاد لأنه وإن صح من جهة المعنى إلا أن الأول لا يدل عليه وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة كما قال الله تعالى: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل الناس فكان الاهتمام بصلاحهم أكثر، وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه: {وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وظالم لّنَفْسِهِ} [الصافات: 113] أو من قوله عز شأنه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] باعتبار السياق إن في ذريتهما ظلمة وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء ولا كان ما كان من أملاك السماء، والمراد من الأمة الجماعة أو الجيل، وخصها بعضهم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم وحمل التنكير على التنويع، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وابعث} إلخ ولا يخفى أنه صرف للفظ عن ظاهره واستدلال بما لا يدل، وجوز أبو البقاء أن يكون {أمة} المفعول الأول {وَمِن ذُرّيَّتِنَا} حال لأنه نعت نكرة تقدم عليها ومسلمة المفعول الثاني وكان الأصل واجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك فالواو داخلة في الأصل على {أمة} وقد فصل بينهما بالجار والمجرور، ومن عند بعضهم على هذا بيانية على حد {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ} [النور: 55] ونظر فيه أبو حيان بأن أبا علي وغيره منعوا أن يفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، وجعلوا ما ورد من ذلك ضرورة وبأن كون من للتبيين مما يأباه الأصحاب ويتأولون ما فهم ذلك من ظاهره؛ ولا يخفى أن المسألة خلافية وما ذكره مذهب البعض وهو لا يقوم حجة على البعض الآخر.
{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} قال قتادة: مَعالِمُ الحج، وقال عطاء وجريج: مواضع الذبح، وقيل: أعمالنا التي نعملها إذا حججنا فالمنسك بفتح السين والكسر شاذ إما مصدر أو مكان وأصل النسك بضمتين غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبًا والبعد عن العادة، {وَأَرِنَا} من رأى البصرية ولهمزة الأفعال تعدت إلى مفعولين أو من رأى القلبية عنى عرف لا علم، وإلا لتعدت إلى ثلاثة، وأنكر ابن الحاجب وتبعه أبو حيان ثبوت رأى عنى عرف، وذكره الزمخشري في المفصل والراغب في مفرداته وهما من الثقات فلا عبرة بإنكارهما، وقرأ ابن مسعود {وأرهم مناسكهم} بإعادة الضمير إلى الذرية، وقرأ ابن كثير ويعقوب وأرْنا بسكون الراء وقد شبه فيه المنفصل بالمتصل فعومل معاملة {فخذ} في إسكانه للتخفيف، وقد استعملته العرب كذلك ومنه قوله:
أرنا إداوة عبد الله نملؤها ** من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا

وقول الزمخشري: إن هذه القراءة قد استرذلت لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها فإسقاطها إجحاف مما لا ينبغي لأن القراءة من المتواترات ومثلها أيضًا موجود في كلام العرب العرباء {وَتُبْ عَلَيْنَا} أي وفقنا للتوبة أو اقبلها منا والتوبة تختلف باختلاف التائبين فتوبة سائر المسلمين الندم والعزم على عدم العود ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم يمكن، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فإن كان إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام طلبا التوبة لأنفسهما خاصة، فالمراد بها ما هو من توبة القسم الأخير، وإن كان الضمير شاملًا لهما وللذرية كان الدعاء بها منصرفًا لمن هو من أهلها ممن يصح صدور الذنب المخل رتبة النبوة منه، وإن قيل: إن الطلب للذرية فقط وارتكب التجوز في النسبة إجراءًا للولد مجرى النفس بعلاقة البعضية ليكون أقرب إلى الإجابة، أو في الطرف حيث عبر عن الفرع باسم الأصل، أو قيل: بحذف المضاف أي على عصاتنا زال الإشكال كما إذا قلنا: إن ذلك عما فرط منهما من الصغائر سهوًا، والقول بأنهما لم يقصدا الطلب حقيقة، وإنما ذكرا ذلك للتشريع وتعليم الناس إن تلك المواضع مواضع التنصل، وطلب التوبة من الذنوب بعيد جدًا، وجعل الطلب للتثبيت لا أراه هنا يجدي نفعًا كما لا يخفى وقرأ عبد الله {وَتَبَّ عَلَيْهِمْ} بضمير جمع الغيبة أيضًا {إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم} تعليل للدعاء ومزيد استدعاء للإجابة، وتقديم التوبة للمجاورة، وتأخير الرحمة لعمومها ولكونها أنسب بالفواصل.

.تفسير الآية رقم (129):

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}
{رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ} أي ارسل في الأمة المسلمة وقيل: في الذرية وعود الضمير إلى أهل مكة بعيد {رَسُولًا مّنْهُمْ} أي من أنفسهم، ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعز به وأشرف، وأقرب للإجابة، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته، ولم يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وجميع أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا من ذريتهما فهو المجاب به دعوتهما، كما روى الإمام أحمد وشارح السنة عن العرباض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سأخبركم بأول أمري، أنا دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني» وأراد صلى الله عليه وسلم إثر دعوته، أو مدعوه، أو عين دعوته على المبالغة ولما كان إسمعيل عليه السلام شريكًا في الدعوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة إسمعيل أيضًا إلا أنه خص إبراهيم لشرافته وكونه أصلًا في الدعاء، ووهم من قال: إن الاقتصار في الحديث على إبراهيم يدل على أن المجاب من الدعوتين كان دعوة إبراهيم دون إسمعيل عليهما الصلاة والسلام. وقرأ أبيّ {وابعث فِيهِمْ فِي نَبْعَثَ رَسُولًا} وهذا يؤيد أن المراد به نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي الأثر أنه لما دعي إبراهيم قيل له: قد استجيب لك، وهو يكون في آخر الزمان.
{يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَتُكَ} أي يقرأ عليهم ما توحى إليه من العلامات الدالة على التوحيد والنبوة وغيرهما، وقيل: خبر من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة، والجملة صفة {رسولًا} وقيل: في موضع الحال منه.
{وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب} بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه، ويوقفهم على حقائقه وأسراره.
والظاهر: أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون الرسول صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن، وكونه بخصوصه كان مدعوًا به غير بين ولا مبين.
والحكمة أي وضع الأشياء مواضعها، أو ما يزيل من القلوب وهج حب الدنيا، أو الفقه في الدين، أو السنة المبينة للكتاب أو الكتاب نفسه، وكرر للتأكيد اعتناءً بشأنه، وقد يقال: المراد بها حقائق الكتاب ودقائقه وسائر ما أودع فيه، ويكون تعليم الكتاب عبارة عن تفهيم ألفاظه، وبيان كيفية أدائه، وتعليم الحكمة الإيقاف على ما أودع فيه، وفسرها بعضهم بما تكمل به النفوس من المعارف والأحكام؛ فتشمل الحكمة النظرية والعملية، قالوا: وبينها وبين ما في {الكتاب} عموم من وجه لاشتمال القرآن على القصص والمواعيد، وكون بعض الأمور الذي يفيد كمال النفس علمًا وعملًا غير مذكور في {الكتاب} وأنت تعلم أن هذا القول بعد سماع قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْء} [الأنعام: 38] وقوله سبحانه تعالى: {تِبْيَانًا لّكُلّ شَيْء} [النحل: 89] مما لا ينبغي الإقدام عليه، اللهم إلا أن تكون هذه النسبة بين ما في {الكتاب} الذي في الدعوة مع قطع النظر عما أجيبت به وبين الحكمة فتدبر.
{وَيُزَكّيهِمْ} أي يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي وهو إشارة إلى التخلية كما أن التعليم إشارة إلى التحلية ولعل تقديم الثاني على الأول لشرافته والقول بأن المراد يأخذ منهم الزكاة التي هي سبب لطهرتهم أو يشهد لهم بالتزكية والعدالة بعيد {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي الغالب المحكم لما يريد، فلك أن تخصص واحدًا منهم بالرسالة الجامعة لهذه الصفات بإرادته من غير مخصص، وحمل {العزيز} هنا على من لا مثل له كما قاله ابن عباس أو المنتقم كما قاله الكلبي و{الحكيم} على العالم كما قيل لا يخلو عن بعد.